سورة الشورى - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشورى)


        


ولما كان الإذن في الانتصار في هذا السياق المادح مرغباً فيه مع ما للنفس من الداعية إليه، زجر عنه لمن كان له قلب أولاً بكفها عن الاسترسال فيه وردها على حد المماثلة، وثانياً بتسميته سيئة وإن كان على طريق المشاكلة، وثالثاً بالندب إلى العفو، فصار المحمود منه إنما هو ما كان لإعلاء كلمة الله لا شائبة فيه للنفس أصلاً فقال: {وجزاء سيئة} أي أي سيئة كانت {سيئة مثلها} أي لا تزيد عليها في عين ولا معنى أصلاً، وقد كفلت هذه الجمل بالدعاء إلى أمهات الفضائل الثلاث العلم والعفة والشجاعة على أحسن الوجوه، فالمدح بالاستجابة والصلاة دعاء إلى العلم، وبالنفقة إلى العفة، وبالانتصار إلى الشجاعة، حتى لا يظن ظان أن إذعانهم لما مضى مجرد ذل، والقصر على المماثلة دعاء إلى فضيلة التقسيط بين الكل وهي العدل، وهذه الأخيرة كافلة بالفضائل الثلاث، فإن من علم المماثلة كان عالماً، ومن قصد الوقوف عندها كان عفيفاً، ومن قصر نفسه على ذلك كان شجاعاً، وقد ظهر من المدح بالانتصار بعد المدح بالغفران أن الأول للعاجز والثاني للمتغلب المتكبر بدليل البغي.
ولما كان شرط المماثلة نادباً بعد شرع العدل الذي هو القصاص إلى العفو الذي هو الفصل لأن تحقق المثلية من العبد الملزوم للعجز لا يكاد يوجد، سبب عنه قوله: {فمن عفا} أي بإسقاط حقه كله أو بالنقص عنه لتتحقق البراءة مما حرم من المجاوزة {وأصلح} أي أوقع الإصلاح بين الناس بالعفو والإصلاح لنفسه ليصلح الله ما بينه وبين الناس، فيكون بذلك منتصراً من نفسه لنفسه {فأجره على الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال فهو يعطيه على حسب ما يقتضيه مفهوم هذا الاسم الأعظم، وهذا سر لفت الكلام إليه عن مظهر العظمة وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً».
ولما كان هذا ندباً إلى العفو بعد المدح بالانتصار، بين أن علته كراهة أن يوضع شيء في غير محله لأنه لا يعلم المماثلة في ذلك إلا الله، فقال مضمراً إشارة إلى أن المثلية من الغيب الخفي مؤكداً لكف النفس لما لها من عظم الاسترسال في الانتصار: {إنه لا يحب الظالمين} أي لا يكرم الواضعين للشيء في غير محله دأب من يمشي في مأخذ الاشتقاق إذا كان عريقاً في ذلك سواء كان ابتداء أو مجاوزة في الانتقام بأخذ الثأر.
ولما كان هذا ساداً لباب الانتصار لما يشعر به من أنه ظلم على كل، قال مؤكداً نفياً لهذا الإشعار: {ولمن انتصر} أي سعى في نصر نفسه بجهده {بعد ظلمه} أي بعد ظلم الغير له وليس قاصد البعد عن حقه ولو استغرق انتصاره جميع زمان البعد.
ولما بين تعالى ما لذلك الناظر في مصالح العباد المنسلخ من خط نفسه إحساناً إلى عباد الله من الرتبة العليا، بين ما لهذا الذاب عن نفسه القاصد لشفاء صدره وذهاب غيظه، فقال رابطاً للجزاء بفاء السبب بياناً لقصور نظره على دفع الظلم عن نفسه، ويجوز كون {من} موصولة والفاء لما للموصول من شبه الشرط.
ولما عبر أولاً بالإفراد فكان ربما قصر الإذن على الواحد لئلا تعظم الفتنة، جمع إشارة إلى أن الفتنة إنما هي في إقرار الظلم لا في نصر المظلوم واحداً كان أو جماعة فقال: {فأولئك} أي المنتصرون لأجل دفع ظلم الظالم عنهم فقط {ما عليهم} وأكد بإثبات الجار فقال: {من سبيل} أي عقاب ولا عتاب، وروى النسائي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما علمت حتى دخلت عليَّ زينب رضي الله عنها بغير إذن وهي غضبى ثم أقبلت عليّ فأعرضت عنها حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: دونك فانتصري، فأقبلت عليها حتى رأيتها قد يبس ريقها في فيها ما ترد عليّ شيئاً، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه».
ولما نفى السبيل عنه بعد تشوف السامع إلى موضع ما أشعر به الكلام السابق من الظلم، بين ذلك فقال: {إنما السبيل} أي الطريق السالك الي لا منع منه أصلاً بالحرج والعنت {على} وجمع إعلاماً بكثرة المفسدين تجرئة على الانتصار منهم وإن كانوا كثيراً فإن الله خاذلهم فقال: {الذين يظلمون الناس} أي يوقعون بهم ظلمهم تعمداً عدواناً {ويبغون} أي يتجاوزن الحدود {في الأرض} بما يفسدها بعد إصلاحها بتهيئتها للصلاح طبعاً وفعلاً وعلماً وعملاً. ولما كان الفعل قد يكون بغياً وإن كان مصحوباً بحق كالانتصار المقترن بالتعدي فيه قال: {بغير الحق} أي الكامل ولما أثبت عليهم بهذا الكلام السبيل، كان السامع جديراً بأن يسأل عنه فقال: {أولئك} أي البغضاء البعداء من الله {لهم عذاب أليم} أي مؤلم بما آلموا من ظلموه من عباد الله بحيث يعم إيلامه أبدانهم وأرواحهم بما لها من المشاعر الظاهرة والباطنة.
ولما أفهم سياق هذا الكلام وترتيبه هكذا أن التقدير: فلمن صبر عن الانتصار أحسن حالاً ممن انتصر، لأن الخطأ في العفو أولى من الخطأ في الانتقام، عطف عليه مؤكداً لما أفهمه السياق أيضاً من مدح المنتصر: {ولمن صبر} عن الانتصار من غير انتقام ولا شكوى {وغفر} فصرح بإسقاط العقاب والعتاب فمحا عين الذنب وأثره: {إن ذلك} أي ذلك الفعل الواقع منه البالغ في العلو جداً لا يوصف {لمن عزم الأمور} أي الأمور التي هي لما لها من الأهلية لأن يعزم عليها قد صارت في أنفسها كأنها دوات العزم أو متأهلة لأن تعزم على ما تريد، والعزم: الإقدام على الأمر بعد الروية والفكرة، قال أبو علي بن الفراء؛ آيات العفو محمولة على الجاني النادم، وآيات مدح الانتصار على المصر، وذلك إنما يحمد مع القدرة على تمام النصرة كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام لإخوته: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم} [الآية: 92] وقال: فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة منها الموقف الأعظم الذي وقفه يوم الفتح عند باب الكعبة وقال لقريش وهم تحته كالغنم المطيرة: «ما تظنون أني فاعل بكم يا معشر قريش؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وروى أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً شتم أبا بكر رضي الله عنه فلما رد عليه قام صلى الله عليه وسلم ثم قال: «يا أبا بكر! ثلاث كلهن حق ما من عبد مظلم مظلمة فعفى عنها لله إلا أعز الله بها نصره، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله بها قلة».
ولما بان في هذا الكلام المقتصر على الصبر والجامع إليه الغفر والمقتضي بالنصر أدرجهم كلهم في دائرة الحق، أتبعه من خرج عن تلك الدائرة، فقال مخبراً أن ما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن عطفاً على نحو: فمن يهدي الله للوقوف عند هذه الحدود فما له من مضل، مبيناً بلفظ الضلال أن ما شرعه من الطريق في غاية الوضوح لا يزيغ عنه أحد إلا بطرد عظيم: {ومن يضلل الله} أي الذي له صفات الكمال إضلالاً واضحاً بما أفاده الفك بعدم البيان أو بعدم التوفيق لمطلق الصبر أعم من أن يكون الاقتصار على أخذ الحق وبتأخير الحق إلى وقت وبالعفو وبالغفر.
ولما كان الضال عن ذلك لا يكون إلا مجبولاً على الشر، سبب عنه قوله: {فما له} أي في ذلك الوقت {من ولي} أي يتولى أمره في الهداية بالبيان لما أخفاه الله عنه أو التوفيق لما بينه له {من بعده} أي من بعد معاملة الله له معاملة البعيد من وكله إلى نفسه وغيره من الخلق في شيء من زمان البعد ولو قل.
ولما كان مبنى أمر الضال على الندم ولو بعد حين، قال عاطفاً على نحو: فترى الظالمين قبل رؤية العذاب في غاية الجبروت والبطر والتكذيب بالقدرة عليهم، فهم لذلك لا يرجون حساباً ولا يخافون عقاباً: {وترى} وقال: {الظالمين} موضع {وتراهم} لبيان أن الضال لا يضع شيئاً في موضعه، ولما كان عذابهم حتماً، عبر عنه بالماضي فقال: {لما رأوا العذاب} أي المعلوم مصير الظالم إليه رؤية محيطة بظاهره وباطنه يتمنون الرجعة إلى الدنيا لتدارك ما فات من الطاعات الموجبة للنجاة {يقولون} أي مكررين مما اعتراهم من الدهش وغلب على قلوبهم من الوجل: {هل إلى مرد} أي رد إلى دار العمل وزمانه مخلص من هذا العذاب {من سبيل}.


ولما أثبت رؤيتهم العذاب، أثبت دنوهم من محله وبين حالهم في ذلك الدنو فقال: {وتراهم} أي يا أكمل الخلق ويا أيها المتشوف إلى العلم بحالهم بعينك حال كونهم {يعرضون} أي يجدد عرضهم ويكرر، وهو إلجاؤهم إلى أن يقارنوها بعرضهم الذي يلزم محاذاتهم لها أيضاً بطولهم ليعلموا أنها مصيرهم فلا مانع لها منهم {عليها} أي النار التي هي دار العذاب مكرراً عرضهم في طول الموقف مع ما هم فيه من تلك الأهوال بمقاساة ما عليهم من الأحمال الثقال حال كونهم {خاشعين} أي في غاية الضعة والإلقاء باليد خشوعاً هو ثابت لهم.
ولما كان الخشوع قد يكون محموداً قال: {من الذل} لأنهم عرفوا إذ ذاك ذنوبهم وانكشفت لهم عظمة من عصوه.
ولما كان الذل ألواناً، صوره بأقبح صورة فقال معبراً بلفظ النظر الذي هو مماسة البصر لظاهر المبصر: {ينظرون} أي يبتدئ نظرهم المتكرر {من طرف} أي تحريك للأجفان {خفي} يعرف فيه الذل لأنه لا يكاد من عدم التحديق يظن أنه يطرف لأنهم يسارقون النظر مسارقة كما ترى الإنسان ينظر إلى المكاره، والصبور ينظر إلى السيف الذي جرد له فهو بحيث لا يحقق منظوراً إليه، بل ربما تخيله بأعظم مما هو عليه. ولما صور حالهم وكان من أفظع الأشياء وأقطعها للقلوب شماتة العدو، قال مبشراً لجميع أصناف أهل الإيمان ورادعاً لأهل الكفران: {وقال} أي في ذلك الموقف الأعظم على سبيل التعبير لهم والتبكيت والتوبيخ والتقريع {الذين آمنوا} أي أوقعوا هذه الحقيقة سواء كان إيقاعهم لها في أدنى الرتب أو أعلاها عند رؤيتهم إياهم على هذا الحال، مؤكدين لتحقيق مقالهم عند من قضى بضلالهم والإعلام بما لهم من السرور بصلاح حالهم، والحمد لمن من عليهم بحس منقلبهم ومآلهم، ويجوز أن يكون قولهم هذا في الدنيا لما غلب على قلوبهم من الهيبة عندما تحققوا هذه المواعظ: {إن الخاسرين} أي الذين كملت خسارتهم هم خاصة {الذين خسروا أنفسهم} بما استغرقها من العذاب {وأهليهم} بمفارقتهم لهم إما في إطباق العذاب إن كانوا مثلهم في الخسران أو في دار الثواب إن كانوا من أهل الإيمان.
ولما أخبر بخسارتهم بين ظرفها تهويلاً لها، ويجوز أن يكون ظرفاً لهذا القول وهو أردع لمن له مسكة لأن من جوز أن يخسر وأن عدوه يطلع على خسارته ويظهر الشماتة به، كان جديراً بأن يترك السبب الحامل على الخسارة فقال: {يوم القيامة} أي الذي هو يوم فوت التدراك لأنه للجزاء لا للعمل لفوات شرطه بفوات الإيمان بالغيب لانكشاف الغطاء. ولما كان هذا نهاية الخسارة، أنتج قوله منادياً ذاكراً سبب هذه الخسارة المعينة مؤكداً لأجل إنكار الظالمين لها وإن كان من تتمه قول المؤمنين هناك، فالتأكيد مع ما يفيد الإخبار به في هذه الدار من ردع المنكر للإعلام بما لهم من اللذة فيما رأوا من سوء حالهم وتقطع أوصالهم ورجائهم من أن ينقطع عنهم ذلك كما ينقطع عن عصاة المؤمنين: {ألا إن الظالمين} أي الراسخين في هذا الوصف فهم بحيث لا ينفكون عن فعل الماشي في الظلام بوضع الأشياء في غير مواضعها {في عذاب مقيم} لا يزايلهم أصلاً، فلذلك لا يفرغون منه في وقت من الأوقات، فلذلك كان خسرانهم لكل شيء.
ولما كانت العادة جارية بأن من وقع في ورطة وجد في الأغلب ولياً ينصره لأو سبيلاً ينجيه، قال عاطفاً على {وتراهم} أو {ألا إن}: {وما كان} أي صح ووجد {لهم} وأعرق في النفي فقال: {من أولياء} فما لهم من ولي لأن النصرة إذا انتفت من الجمع انتفت من الواحد من باب الأولى.
ولما كان من يفعل فعل القريب لا يفيد إلا إن كان قادراً على النصرة قال: {ينصرونهم} أي يوجدون نصرهم في وقت من الأوقات لا في الدنيا بأن يقدروا على إنقاذهم من وصف الظلم ولا في الآخرة بإنقاذهم مما جرى عليهم من العذاب. ولما كان الله تعالى يصح منه أن يفعل ما يشاء بواسطة أو غيرها قال: {من دون الله} أي ما صح ذلك وما استقام بوجه بغيره، وأما هو فيصح ذلك منه ويستقيم له لإحاطته بأوصاف الكمال ولو أراد لفعل ولما بين ما لهم بين ما لمن اتصف بوصفهم كائناً من كان، فقال بناء على نحو: لأنه هو الذي أضلهم: {ومن يضلل الله} أي يوجد ضلاله إيجاداً بليغاً بما أفاده الفك على سبيل الاستمرار بعدم البيان له أو بعدم التوفيق بعد البيان: {فما له} بسبب إضلال له جميع صفات الجلال والإكرام، وأعرق في النفي بقوله: {من سبيل} أي تنجية من الضلال ولا مما تسبب عنه من العذب. ولما كان هذا، أنتج قطعاً قوله: {استجيبوا} أي اطلبوا الإجابة وأوجدوها، ولفت القول إلى الوصف الإحساني تذكيراً بما يحث على الوفاق، ويخجل من الخلاف والشقاق، فقال: {لربكم} الذي لم تروا إحساناً إلا وهو منه فيما دعاكم إليه برسوله صلى الله عليه وسلم من الوفاء بعهده في أمره ونهيه، ولا تكونوا ممن ترك ذلك فتكونوا ممن علم أنه أضله فانسد عليه السبيل.
ولما كان الخوف من الفوت موجباً للمبادرة، قال مشيراً بالجار إلى أنه يعتد بأدنى خير يكون في أدنى زمن يتصل بالموت: {من قبل أن يأتي يوم} أي يكون فيه ما لا يمكن معه فلاح؛ ثم وصفه بقوله لافتاً إلى الاسم الأعظم الجامع لأوصاف الإحسان والإنعام على المطيعين والقهر والانتقام من العاصين: {لا مرد} أي لا رد ولا موضع رد ولا زمان رد {له} كائن {من الله} أي الذي له جميع العظمة وإذا لم يكن له مرد منه لم يكن له مرد من غيره، ومتى عدم ذاك أنتج قوله: {ما لكم} وأعرق في النفي بقوله: {من ملجأ يومئذ} أي مكان تلجؤون إليه في ذلك اليوم وحصن تتحصنون فيه من شيء تكرهونه، وزاد في التأكيد بإعادة النافي وما في حيزه إبلاغاً في التحذير فقال: {وما لكم من نكير} أي من إنكار يمكنكم به من النجاة لأن الحفظة يشهدون عليكم فإن صدقتموهم وإلا شهدت عليكم أعضاؤكم وجلودكم، ولا لكم من أحد ينكر شيئاً مما تتجاوزون به ليخلصكم منه.
ولما أنهى ما قدمه في قوله: {شرع لكم من الدين} نهايته، ودل عليه وعلى كل ما قادته الحكمة في حيزه حتى لم يبق لأحد شبهة في شيء من الأشياء، كان ذلك سبباً لتهديدهم على الإعراض عنه وتسلية رسولهم صلى الله عليه وسلم فقال معرضاً عن خطابهم إيذاناً بشديد الغضب: {فإن أعرضوا} أي عن إجابة هذا الدعاء الذي وجبت إجابته والشرع الذي وضحت وصحت طريقته بما تأيد به من الحجج، ولفت القول إلى مظهر العظمة دفعاً لما قد يوهم الإرسال من الحاجة فقال: {فما أرسلناك} مع ما لنا من العظمة {عليهم حفيظاً} أي نقهرهم على امتثال ما أرسلناك به. ولما كان التقدير. فأعرض عن غير إبلاغهم لأنا إنما أرسلناك مبلغاً، وضع موضعه: {إن} أي ما {عليك إلا البلاغ} لما أرسلناك به، وأما الهداية والإضلال فإلينا.
ولما ضمن لهذه الآية ما أرسله له، أتبعه ما جبل عليه الإنسان بياناً لأنه صلى الله عليه وسلم لا حكم له على الطباع وأن الذي عليه إنما هو الإسماع لا السماع، فقال عاطفاً على ما قبل آية الشرع من قوله: {يبسط الرزق لمن يشاء} حاكياً له في أسلوب العظمة تنبيهاً على أنه الذي حكم عليهم بالإعراض عما هو جدير بأن لا يعرض عنه عاقل، وإيماء إلى أن الإنسان لغلبه جهله وقلة عقله يجترئ بأدنى تأنيس على من تجسد الجبال لعظمته وتندك الشوامخ من هيبته: {وإنا إذا أذقنا} بعظمتنا التي لا يمكن مخالفتها. ولما كان من يفرح بالنعمة عند انفراده بها مذموماً، عبر بالجنس الصالح للواحد فما فوقه تنبيهاً على أن طبع الإنسان عدم الاهتمام بشدائد الإخوان إلا من أقامه الله في مقام الإحسان فقال: {الإنسان} أي بما جبلناه عليه من النقص بالعجلة وعدم التمالك {منا رحمة} أي نوعاً من أنواع الإكرام من صحة أو غنى ونحو ذلك، وأفرد الضمير إشارة إلى أنه مطبوع على أنه ليس عليه إلا من نفسه ولو كان أهل الأرض كلهم على غير ذلك، وكذا عبر بالإنسان فقال: {فرح بها} أي ولو أن أهل الأرض كلهم في نقمة وبؤس وعمى فأخرجه الفرح عن تأمل ما ينفعه ليشكر، فكان ذلك لذلك كافراً للنعمة لأنه أبدل الشكر بالفرح والكفر فتوصل بالعافية إلى المخالفة، فأوقع نفسه في أعظم البلاء.
ولما دل باداة التحقق على أن النعمة هي الأصل لعموم رحمته، وأنها سبقت غضبه، دل على أن السيئة قليلة بالنسبة إليها بأداة الشك والمضارع فقال: {وإن} ولما كانت المشاركة في الشدائد تهون المصائب، فكان من يزيد غمه بخصوص مصيبته عند العموم مذموماً، نبه على نقص الإنسان بذلك بالجمع فقال: {تصبهم سيئة} أي نقمة وبلاء وشدة. ولما كانت الرحمة فضلاً منه، أعلمهم أن السيئة مسببة عنهم فقال: {بما قدمت أيديهم} وعبر باليد عن الجملة لأن أكثر العمل بها. ولما كان الجواب على نهج الأول: حزنوا فكفروا، وعدل عنه إلى ما يدل على أن جنس الإنسان موضع الكفران، ولما كانوا يدعون الشكر وينكرون الكفر، أكد قوله وسبب عن تلك الإصابة والإذاقة معاً إشارة إلى أنه لا أصل له غيرهما، فقال مظهراً موضع الضمير لينص على الحكم على الجنس من حيث هو: {فإن الإنسان} أي الآنس بنفسه المعرض عن غيره بما هو طبع له بسبب مسه بضر {كفور} أي بليغ الستر للنعم نساء له، ينسى بأول صدمة من النقمة جميع ما تقدم له من النعم، ولا يعرف إلا الحالة الراهنة، فإن كان في نعمه أشر وبطر، وإن كان في نقمه أيس وقنط، وهذا حال الجنس من حيث هو، ومن وفقه الله جنبه ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له» وليس ذلك إلا للمؤمن، والآية من الاحتباك: قكر الفرح أولاً دالاً على الحزن ثانياً، وذكر الكفران ثانياً دال على حذفه أولاً.


ولما قدم سبحانه في هذه السورة أن له التصرف التام في عالم الخلق بالأجسام المرئية وفي عالم الأمر بالأرواح الحسية والمعنوية القائمة بالأبدان والمدبرة للأديان، وغير ذلك من بديع الشأن، فقال في افتتاح السورة {كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك} وأتبعه أشكاله إلى أن قال {أم يقولون افترى على الله كذباً فإن يشأ الله يختم على قلبك} الآية {فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفكسم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً} الآية {له مقاليد السماوات والأرض} {الله لطيف بعباده يرزق من يشاء} {من كان يريد حرث الآخرة} الاية، {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض} {ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام} الآية إلى أن ذكر أحوال الآخرة في قوله: {وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون} الآيات، وختم بتصرفه المطلق في الإنسان من إنعام وانتقام، وما له من الطبع المعوج مع ما وهبه له من العقل المقيم في أحسن تقويم، فدل ذلك على أن له التصرف التام ملكاً وملكوتاً خلقاً وأمراً، أتبعه الدليل على أن تصرفه ذلك على سبيل الملك والقهر إيجاداً وإعداماً إهانة وإكراماً، فقال صارفاً القول عن أسلوب العظمة التي من حقها دوام الخضوع وإهلاك الجبابرة إلى أعظم منها بذكر الاسم الأعظم الجامع لمظهر العظمة ومقام اللطف والإحسان والرحمة نتيجة لكل ما مضى: {لله} أي الملك الأعظم وحده لا شريك له {ملك السماوات} كلها على علوها وارتفاعها وتطابقها وكبرها وعظمها وتباعد أقطارها {والأرض} جميعها على تباينها وتكاثفها واختلاف أقطارها وسكانها واتساعها.
ولما أخبر بانفراده بالملك، دل عليه بقوله تعالى: {يخلق} أي على سبيل التجدد والاستمرار {ما يشاء} أي وإن كان على غير اختيار العباد، ثم دل على ذلك بما يشاهد من حال الناس فانه لما استوى البشر في الإنسانية والنكاح الذي هو سبب الولادة اختلفت أصناف أولادهم. كان ذلك أدل دليل على أنه لا اختيار لأحد معه وأن الأسباب لا تؤثر أصلاً إلا به. ولما كانت ولادة الإناث أدل على عدم اختيار الولد وكانوا يعدونه من البلاء الذي ختم به ما قبلها قدمهن في الذكر فقال: {يهب} خلقاً ومولداً {لمن يشاء} أولاداً {إناثاً} أي فقط ليس معهن ذكر كما في لوط عليه الصلاة والسلام، وعبر سبحانه فيهن بلفظ الهبة لأن الأوهام العادية قد تكتنف العقل فتحجبه عن تأمل محاسن التدبيرات الإلهية، وترمي به في مهاوي الأسباب الدنيوية، فيقع المسلم مع إسلامه في مضاهاة الكفار في كراهة البنات وفي وادي الوأد بتضييعهن أو التقصير في حقوقهن وتنبيهاً على أن الأنثى نعمة، وأن نعمتها لا تنقص عن نعمة الذكر وربما زادت، وإيقاظاً من سنة الغفلة على أن التقديم وإن كان لما قدمته لا يقدم تأنيساً وتوصية لهن واهتماماً بأمرهن، نقل ابن ميلق عن ابن عطية عن الثعلبي أن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر لأن الله تعالى بدأ بالإناث، ولذلك رغب النبي صلى الله عليه وسلم في الإحسان إليهن في أحاديث كثيرة ورتب على ذلك أجراً كبيراً ولأجل تضمين الهبة مع الخلق عداها باللام مع أن فعلها متعد بنفسه إلى مفعولين لئلا يتوهم أن الولد كان لغير الوالد ووهبه الله له.
ولما كان الذكر حاضراً في الذهن لشرفه وميل النفس إليه لا سيما وقد ذكر به ذكر الإناث، عرف لذلك وجبراً لما فوته من التقديم في الذكر تنبيهاً على أنه ما أخر إلا لما ذكر من المعنى فقال: {ويهب لمن يشاء الذكور} أي فقط ليس بينهن أنثى كما صنع لإبراهيم عليه السلام وهو عم لوط عليه السلام. ولما فرغ من القسمين الأولين عطف عليهما قسيماً لهما ودل على أنه قسم بأو فقال: {أو يزوجهم} أي الأولاء بجعلهم ازواجاً أي صنفين حال كونهم {ذكراناً وإناثاً} مجتمعين في بطن ومنفردين كما منح محمداً صلى الله عليه وسلم، ورتبهما هنا على الأصل تنبيهاً على أنه ما فعل غير ذلك فيما مضى إلا لنكت جليلة فيجب تطلبها، وعبر في الذكر بما هو أبلغ في الكثرة ترغيباً في سؤاله، والخضوع لديه رجاء نواله.
ولما فرغ من أقسام الموهوبين الثلاثة، عطف على الإنعام بالهبة سلب ذلك، فقال موضع أن يقال مثلاً: ولا يهب شيئاً من ذلك لمن يشاء: {ويجعل من يشاء عقيماً} أي لا يولد له كيحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام- كذا قالوه، والظاهر أنه لا يصح مثالاً فإنه لم يتزوج، قال ابن ميلق، وأصل العقيم اليبس المانع من قابلية التأثر لما من شأنه أن يؤثر، والداء العقام هو الذي لا يقبل البرء- انتهى. فهذا الذي ذكر أصرح في المراد لأجل ذكر العقم، وأدل على القدرة لأن شامل لمن له قوة الجماع والإنزال لئلا يظن أن عدم الولد لعدم تعاطي أسبابه، وذكروا في هذا القسم عيسى عليه الصلاة والسلام. ولا يصح لأنه ورد أنه يتزوج بعد نزوله ويولد له، وهذه القسمة الرباعية في الأصول كالقسمة الرباعية في الفروع، بعضهم لا من ذكر ولا أنثى كآدم عليه الصلاة والسلام، وبعضهم من ذكر فقط كحواء عليها السلام، وبعضهم من أنثى فقط كعيسى عليه السلام وبعضهم من ذكر وأنثى وهو أغلب الناس، فتمت الدلالة على أنه ما شاء كان ولا راد له وما لم يشأ لم يكن، ولا مكون له ولا مانع أعطى ولا معطي لما منع.
ولما دل هذا الدليل الشهودي على ما بنيت الآية عليه من إثبات الملك له وحده مع ما زادت به من جنس السياق وعذوبة الألفاظ وإحكام الشك وإعجاز الترتيب والنظم، كانت النتيجة قطعاً لتضمن إشراكهم به الطعن في توحده بالملك مقدماً فيها الوصف الذي هو أعظم شروط الملك: {إنه عليم} أي بالغ العلم بمصالح العباد وغيرها {قدير} شامل القدرة على تكوين ما يشاء.
ولما تم القسم الأول مما بنى على العلم والقدرة، والقدرة فيه أظهر وفاقاً لما ختمت به الآية، وكان قد يكون خلقه إياه إبداعاً من غير توسط سبب، وقد يكون بتوسيط سبب، أتبعه القسم الآخر الأعلى الذي العلم فيه أظهر وهو الوحي الذي ختمت آيته أول السورة بالحكمة التي هي سر العلم وقسمه أيضاً إلى ما هو بواسطة وإلى ما هو بغير واسطة ولكن سر التقدير في القسم الأول الكلام وهو الذي شرف به وكان لا يمكن أحداً أن يتكلم إلا بتكليم الله له أي إيجاده الكلام في قلبه قال: {وما} أي وهو سبحانه تام العلم شامل القدرة غرز في البشر غريزة العلم وأقدره على النطق به بقدرته وحياً منه إليه كما أوحى إلى النحل ونحوها والحال أنه ما {كان لبشر} من الأقسام المذكورة، وحل المصدر الذي هو اسم {كان} ليقع التصريح بالفاعل والمفعول على أتم وجوهه فقال: {أن يكلمه} وأظهر موضع الإضمار إعظاماً للوحي وتشريفاً لمقداره بجلالة إيثاره قفال: {الله} أي يوجد الملك الأعظم الجامع لصفات الكمال في قلبه كلاماً {إلا وحياً} أي كلاماً خفياً يوجده فيه بغير واسطة بوجه خفي لا يطلع عليه أحد إلا بخارق العادة إما بإلهام أو برؤيا منام أو بغير ذلك سواء خلق الله في المكلم به قوة السماع له وهو أشرف هذه الأقسام مطلقاً سواء كان ذلك مع الرؤية ليكون قسيماً لما بعده أولاً أو يخلق فيه ذلك ومن هذا القسم الأخير {وأوحينا إلى أم موسى} [القصص: 7] {وأوحى ربك إلى النحل} [النحل: 68] {وأوحى في كل سماء أمرها} [فصلت: 12] فإن إيداعها القوى التي يحصل بها المنافع مثل إيداع الإنسان قوة الكلام ثم قوة التعبير عنه- والله أعلم. وهذا معنى قول القاضي عياض في الشفاء في آخر الفصل الثاني من الباب الرابع في الإعجاز: وقد قيل في قوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً} الآية أي ما يلقيه في قلبه دون واسطة، ومعنى قول الإمام شهاب الدين السهروردي في الباب السادس والعشرين من عوارفه: والعلوم اللدنية في قلوب المنقطعين إلى الله ضرب من المكالمة.
ولما كان الحجاب الحسي يخفي ما وراءه عن العيان، استعير لمطلق الخفاء فقال: {أو من} أي كلاماً كائناً بلا واسطة، لكنه مع السماع لعين كلام الله كائن صاحبه من {وراء حجاب} أي من وجه لا يرى فيه المتكلم مع السماع للكلام على وجه الجهر، قال القشيري: والمحجوب العبد لا الرب، والحجاب أن يخلق في محل الرؤية ضد الرؤية، وتعالى الله أن يكون من وراء حجاب لأن ذلك صفة الأجسام- انتهى.
والآية يمكن تنزيلها على الاحتباك بأن يكون ذكر الحجاب ثانياً دليلاً على نفيه أولاً، وذكر الوحي الدال على الخفاء أولاً دليلاً على الجهر ثانياً، والحجاب ثانياً دليلاً على الرؤية أولاً، وسره أن ترك التصريح والدلالة عليها بالحجاب أولى بسياق العظمة.
ولما كان الذي بلا واسطة مع كونه أخفى الأقسام ليس فيه صوت ولا ترتب في كلمات، عبر فيه بالمصدر وعبر بما يلقيه الملك بما يدل على التجدد فقال: {أو يرسل} وهو عطف على المصدر بعد تقدير حله {رسولاً} أي من الملائكة. ولما كان الوحي مسبباً عن الإرسال ومرتباً عليه قال: {فيوحي} أي على سبيل التجديد والترتيب، وقرأ نافع برفع يرسل ويوحي بتقدير: أو هو يرسل. ولما كان ربما ظن أن للواسطة فعلاً يخرج عن فعله، رد ذلك بقوله: {بإذنه} أي بإقداره وتمكينه، فذلك المبلغ إنما هو آلة. ولما كان رسوله لا يخرج عما حده له بوجه قال: {ما يشاء} أي لا يتعدى مراده وإقداره أصلاً فهو المكلم في الحقيقة وقد بان أنها ثلاثة أقسام: أولها فيه قسمان، خص الأول بقسميه بالتصريح باسم الوحي لأنه كما مر أخفاها وهو أيضاً يقع دفعة، والوحي يدور معناه على الخفاء والسرعة.
ولما كانت الأقسام دالة على العظمة الباهرة، وكانت للروح البدني لأن روح الوحي يكسب الروح البدني حياة العلم كما أفاد الروح البدن حياة الحركة بالإرادة والحس، كانت النتيجة مؤكدة لتضمن طعنهم في الرسول والقرآن والتوحيد طعنهم في مضمون الجملة: {إنه} أي الذي له هذا التصرف العظيم في هذا الوحي الكريم {عليّ} أي بالغ العلو حداً مما لا يليق به من الأوصاف وبما يكون للخلق عن جنابه من السفول بما عليهم من الحجب فلا يلبس شيء مما يعبر به تقريباً للعقول فيحمل على ما يوهم نقصاً، فإن المجازات في لسان العرب شهيرة {حكيم} يتقن ما يفعله إتقاناً لا تحيط العقول بإدراكه فيسكن روح العلم الذي هو من ألطف أسراره في روح البدن المدبر له فيكون سراً في سر كما كان براً بعد بر، ويجعل ذلك تارة بواسطة وتارة بغير واسطة على حسب ما يقتضيه الحال، ويعبر عن كل معنى بما يقتضيه حاله في ذلك السياق، ومهما أوهم شيء من ذلك نقصاً فرد المستبصر إلى المحكم بضرب من التأويل على ما يقتضيه الشائع من استعمالات رجع رجوعاً بيناً متقناً بحيث يصير في غاية الجلاء.

1 | 2 | 3 | 4 | 5